مجزرة داريا.. صورة “الموت” العالقة في الذاكرة
2022-08-28 13:08 | اخر تعديل : 2024-10-04 02:10
مجزرة داريا.. صورة “الموت” العالقة في الذاكرة
عنب بلدي – لجين مراد
“ما بتروح من ذاكرتي”، جملة قالها شاهدان على مجزرة داريا، تنقل صور الخوف والموت العالقة في ذاكرة الآلاف من أبناء المدينة وسكانها، وتعكس أثرها البالغ في نفوسهم، وعجزهم عن تجاوزها رغم مضي عشر سنوات على المجزرة.
عُرفت داريا بلون الورد الأبيض الذي حمله الأهالي مرارًا خلال مظاهراتهم، إلى أن ارتكب النظام السوري مجزرة استمرت من 20 وحتى 25 من آب 2012، فتحوّلت المدينة إلى ذاكرة من الدم الذي اصطبغت به الطرقات والبيوت.
وقعت مجزرة داريا بعد أسابيع من تفجير عُرف باسم “خلية الأزمة” في 18 من تموز، قُتل خلاله أربعة من كبار قادة النظام الأمنيين في ظل تصعيد عسكري عاشته سوريا حينها.
مخاوف كبيرة تولدت عند أهالي داريا من أن تكون مدينتهم موضع “انتقام” النظام السوري، بحسب ما قاله حذيفة الشربجي، أحد العاملين في الفريق الطبي لداريا خلال المجزرة.
“قبل أيام من المجزرة، بدأت الحواجز المتمركزة عند الدوارين الرئيسين في داريا بالقيام بأعمال استفزازية، ما دفع مجموعة من شباب داريا لاقتحام الحواجز، وعزز مخاوف الأهالي من رد النظام”، هكذا بدأت القصة.
بعد نصف ساعة من اقتحام الحواجز، بدأ النظام قصفه العشوائي للمدينة، رافقه توافد سيارات لنقل الجرحى، إذ فاقت أعدادهم قدرة المستشفى الميداني الذي جهزه حذيفة ورفاقه مسبقًا في إحدى مدارس داريا تحسبًا لهذا الهجوم.
“العجز كان الكلمة الوحيدة التي تصف الموقف”، هذا ما قاله حذيفة، واصفًا شعوره والفريق الطبي أمام صرخات النساء والأطفال، وعشرات الجرحى المطروحين على الأرض، في ظل ضعف الإمكانيات، وعجز الطاقم عن تقديم المساعدة للكثيرين.
“إذا نقلناه عالمشفى ممكن يعيش؟”، سؤال كان الفريق الطبي مجبرًا على التفكير فيه قبل أن ينقل الحالات الحرجة من الجرحى إلى المستشفى الميداني المجهز لإجراء العمليات، بحسب ما رواه حذيفة.
وأوضح المسعف أن الطاقة الاستيعابية لمستشفى العمليات لم تكن كافية للعدد “الهائل” من المصابين، ما وضعه والفريق أمام مسؤولية ترتيب الأولويات حتى في تقديم العلاج.
“في ذلك الوقت، أمام هول ما كنا نراه في المشفى، قرر العديد من شباب الفريق الانسحاب”، تابع حذيفة، مضيفًا أن الدافع الوحيد الذي جعله يتابع عمله هو عهد قطعه على نفسه لمساعدة الأهالي.
لم يكن القصف إلا نقطة البداية لاقتحام النظام للبيوت، وتنفيذ إعدامات ميدانية جماعية أسفرت عن قتل حوالي 700 شخص، بينهم 522 شخصًا موثقين بالاسم، بحسب “فريق التوثيق في داريا”.
بعد أن طال القصف المدرسة التي أُقيم فيها المستشفى، انتقل الفريق الطبي إلى قبو في مسجد “المصطفى”، ومنه إلى قبو في أحد بيوت داريا الغربية بعد أن اقتربت قوات النظام السوري من المسجد، وفق ما قاله حذيفة، مشيرًا إلى أن معرفة تحركات قوات النظام اقتصرت على أخبار ينقلها شباب تطوعوا لمساعدة الأهالي، جرّاء قطع الكهرباء والاتصالات عن المدينة كاملة.
لم يستطع معظم الأهالي الهرب، واختارت كل عائلة الاجتماع بمنزل واحد، أو قبو واحد، في حين تزايدت مخاوفهم مما سيفعله النظام.
بينما استطاعت عائلة الصحفية خلود حلمي الهرب إلى مزرعة على أطراف داريا، لتقتصر رؤيتهم للمشهد على ما نقلته وسائل الإعلام التابعة للنظام السوري. “كنا نسمع إعلام النظام وهو يتحدث عن محاربة الإرهاب، نرى صور البيوت والمساجد التي اقتحمها، والمقابلات التي أجبر الأهالي خلالها على تأكيد روايته، ويزداد ألمنا وعجزنا”، ما تحدثت عنه خلود لعنب بلدي، عاشته معظم العائلات في داريا.
أمضى حذيفة ساعات في القبو برفقة جريحين، استطاع والفريق نقلهما في محاولة لإنقاذهما، بينما كان النظام مستمرًا باقتحام داريا وصولًا إلى الجهة الغربية، حيث يقع القبو.
“تحوّل القبو إلى قبر”، يصف حذيفة الحال بعد وصول قوات النظام إلى الجهة الغربية والبدء باقتحام البيوت، ما أجبر صاحب المنزل على إطفاء أنوار القبو وإقفال أبوابه. “كنا نسمع وقع أقدامهم على أرض المنزل فوقنا، ونردد آيات من القرآن، بينما نسمع أصوات آلام الجريحين قربنا ولا نفكر إلا باحتمالية النجاة”.
وأُجبر حذيفة والفريق الطبي على إعطاء أدوية مسكّنة بشكل متكرر لأحد الجريحين، خوفًا من أن يعلو صوته ليصل إلى قوات النظام التي كانت تتجول فوقهم في المنزل، لكنهم لم يستطيعوا إنقاذه.
بعد أن غادرت قوات النظام محيط القبو، فتح صاحب المنزل أبوابه لتكون هذه اللحظات “ولادة جديدة” لحذيفة وأصدقائه.
“توجهنا نحو البلد باتجاه مسجد (أبو سليمان) لنقل جثة الشهيد، وكان دخولنا للمسجد فاجعة حقيقية، حين رأينا عشرات الجثث المرمية، وبدأنا نسمع رواية الناجين من المجزرة”، وفق ما قاله حذيفة.
“الداخل مفقود والخارج مولود”، عبارة اختصرت وصف حذيفة للمشهد بعد المجزرة، ومحاولات لقائه بأصدقائه والناجين من أهالي المدينة. مشهد مشابه عاشته الصحفية خلود حلمي عند عودتها إلى منزلها في مركز المدينة، إذ قالت إن ذاكرتها الحقيقية عن المجزرة تتركز بالمشاهد التي رأتها حينها.
“الموت هو الشيء الوحيد الذي كان يسيطر على المدينة، كنت أشم رائحة الموت في الشوارع والبيوت”، تابعت خلود.
وأضافت الصحفية الشابة، “شاهدت أحد الناجين من بين 60 شخصًا قُتلوا جميعًا في قبو واحد، ولم تكن قصته إلا جزءًا من مئات قصص القتل العشوائي وإحراق المنازل”.
“داريا كانت عم تبكي دم، ولم يكن يُرى في شوارعها إلا الظلام والوحشة”، تلك الصورة التي حملها حذيفة في ذاكرته عن مدينته بعد المجزرة.
ولا تختلف ذاكرة الحدث عند حذيفة عنها عند خلود، التي اختصرت صورة داريا بكلمة “الموت”، قالتها وهي تستذكر الرائحة والصور والتفاصيل.
“الشعور الذي غلبنا جميعًا حينها هو العدمية، لا جدوى من فعل أي شيء”، شعور بررت به خلود توقف المظاهرات في داريا، وتوقف إصدار جريدة عنب بلدي التي هي أحد مؤسسيها، وفق ما قالته، معتبرة حجم “المصيبة” أكبر من استكمال العمل الصحفي.
وتابعت خلود، “المشكلة الحقيقية كانت بأنني حملت عبء الذاكرة”، بعد أن بدأت وفريق عنب بلدي العمل على توثيق قصص الناجين من المجزرة عبر تسجيلات صوتية وتقارير مكتوبة.
وحافظت خلود على تلك الذاكرة إلى أن أجبرها اقتحام النظام لداريا مرة أخرى بعد شهرين من المجزرة، على التخلص من “كروت الذاكرة” التي سجلت عليها قصص الناجين من المجزرة، لكنها ظلت محتفظة بها في ذاكرتها.
وبحسب تحقيق نشره “المجلس السوري- البريطاني”، في 25 من آب الحالي، فقد شارك في الحملة العسكرية كل من “الفرقة الرابعة” المقربة من إيران،
و”الحرس الجمهوري”، و”المخابرات الجوية”، وعناصر “الشبيحة” بدعم من “حزب الله” اللبناني والميليشيات الإيرانية.
وقد أسفرت الحملة، التي استمرت لأربعة أيام متواصلة، عن مجزرة كبيرة تجاوز عدد ضحاياها 750 من المدنيين، من بينهم عائلات بأكملها، ودُفن معظمهم في مقابر جماعية بالقسم الجنوبي من مدينة داريا.
وشهدت المدينة بعد المجزرة بشهرين قصفًا وحصارًا فرضته قوات النظام السوري لأربع سنوات، أسفر عن دمار كبير في بنيتها التحتية، وانتهى بتهجير المئات من أهلها في آب 2016.
ولم يسمح النظام بعودة أهلها إلا بعد عامين كاملين على تهجيرهم، بموجب موافقات أمنية خاصة، بعد إعلانه بدء ترحيل الأنقاض وفتح طرقات المدينة.
المصدر : عنب بلدي